Sunday, August 12, 2007

غياب الخطاب وأزمة الخُطب



في كل يوم جمعة يعتلي أئمة المساجد في كثير من أرجاء هذا العالم - من أوله الى ثالثه- منابرهم، لتكرار "خطب" فيها ما فيها من لحن في اللغة، ومبالغة في التعبير، وإحجام عن كل أشكال الثقافة والتثقيف أو الفقه والتفقيه، خطب مبتورة رغم أن "الـبتراء" بينها كشمس حولها أقمار بل ربما أحجار، وعلى مدار الساعة ولسبعة أيام في الاسبوع، نشاهد برامج الوعظ والخطابة على شاشاتنا الصغيرة، مما ساهم بأخذ تلك البرامج والمحطات منحى تجاري وتسويقي، ما بين تبادل "الدعاء" والمنافسة في الإفتاء، ولا ننسى الاف "المطويات" التي توزع على أرواح موتانا، وهي بدورها لا تخلو من الأخطاء والتناقض،...وغير ذلك الكثير من الأساليب الدعوية، في ظل عصر بات الإعلام من أحسن سماته وأسوأ آفاته.

ولا يمكن أن ننكر أن كل ذلك - وأخص الفضائيات- ساهم ويساهم في زيادة "ظاهر" التدين من جهة، والابتعاد عن جوهره من جهة أخرى، وساهم بإظهار ما دفن في بطون أمهات الكتب، التي لم يعد يقرءها أحد، إلا أنه أخفى نهج تلك الكتب وقدرة مؤلفيها على الإختلاف دون خلاف، فبينما أثر الإعلام بشكل واضح في إزدياد أعداد رواد المساجد، إلا أنه وفي الوقت نفسه أظهر الغلو وإحتكار الحق والحقيقة وتهميش الاخر وتخوينه، ليس عند المتلقين لهذه الخطابات وحسب بل بين الدعاة أنفسهم أيضا، و إنحصر التأثير بالكم لا النوع، ولم يؤثر بالسلوك أو الوعي، ولم ينتج ثقافه عامه تؤسس رؤية متنوعه تتحقق بها شمولية تلك الثقافة، ولم ينتج ثقافة مختلفة دون أن تكفِر ذاتها، ولم ينتج ثقافة تؤمن بوحدة مصدرها وتعدد فهمها

السؤال الان، أين الخلل؟ هل هو تدني مستوى الوعظ وركاكة الخطابة وسوء الإنتاج الإعلامي، أم أنه قلة وعي وثقافة الملقي والمتلقي وسطحية الفهم، والتمسك بالقشور دون الجوهر؟ أم أنه غياب "الخطاب الإسلامي" أو إنفصاله عن الدعاة، وإنحصاره في التنظير الفكري الجاف بين دفات كتب على ما يبدو أنها لم تعد تجذب حتى الخطباء أنفسهم؟

من المهم هنا الاشارة الى الفرق ما بين "الخِطاب" بمعنى المفهوم أو الفكر، وما بين "الخُطبة" أو الخِطابة بمعنى الوعظ، وقبل ذلك لا بد أن ندرك أن كلا من الخطاب والخطبة، هي قراءة للنص "الديني" وليست "الدين" ذاته، فالخطاب ليس كلام الله سبحانه، إنما هو الفهم البشري "غير المقدس" لكلام الله تعالى، والاستشهاد بالنصوص لا يعطي لاحد قدسية تلك النصوص

وإختلاط المفهوم ما بين الخطاب والخطبه، ناتج عن أن الثاني أداة للاول، بمعنى أن الفكر "الخطاب" لا يمكن فهمه أو توصيله لذهن المتلقي إلا من خلال كافة أشكال الخطابة، من خطب وبرامج مرئية ومسموعة وكتب ومنشورات...، بمعنى أن أدبيات الخطاب هي الناطق الرسمي بإسمه، وهي المعبر عنه، وبالتالي فإننا نفهم الخطاب من خلالها، ولكن لا يمكن تصنيفها تحت هذا الاطار، الا إذا التزمت هذه الادبيات بنسق الخطاب الذي تعبر عنه، ولو نظريا على أقل تقدير، والخطاب على حد قول د. عبد الوهاب المسيري يقع في ثلاثة مستويات متداخلة في بعضها، أولها "الخطاب الفكري"وهو في الكتب المنهجية المنظرة لهذا الخطاب أو ذاك، وهناك المستوى السياسي للخطاب، وهذا يظهر في أدبيات الحركات الاسلامية التي تأخذ الصبغة الاسلامية وتستنبط مبادئها من الخطاب الفكري، واخرهم الخطاب الجماهيري، الذي من المفترض أن يعبر عنه الجماهير بسلوك حياتهم اليومي، من خلال ممارستهم للعمل السياسي أو من خلال فهمهم للخطاب الفكري

وبالتأكيد فإن ذلك لا ينطبق على ما نسمعه صبح مساء من شيوخنا الاجلاء، وحتما لا نراه بسلوك الجماهير ورفعة اللواء، الذين ينتهجون نهج من يفصل الدين عن الدولة، فيفصلون الدين عن ذاته، ويقتلون روحه، وبذلك يصدرون خطبا تصادر كل أشكال الخطاب ومستوياته، فلا يلتزمون بأي منهج لقراءة النصوص، ويعتمدون على رؤيتهم الشخصية للاشياء بناء على ما ورثوه من عادات وتقاليد، ويقرأون النصوص من خلال ذلك الموروث الذي بأغلبه لا يمت للنص بصلة، أو يقرأونها بشكل مبتور دون وعي للسياق، أو فهم للناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك من أدوات قراءة النص، ودون التفقه بأشكال الفقه، من فقه للواقع والموازنه والخطاب والأولويات و...، ويتحولون من محافظين الى "حافظين" دون إدراك ما تعيه رؤوسهم، وينقطعون عن ما يفترض أن يشمله الخطاب من تكامل ما بين المستويات الثلاثة، ويتم التعامل مع صيغ الخطاب بشكل مجزأ، حيث تأخذ الأحكام والتشريع دون التربية والاخلاق وتفصل العقيدة عن كلاهما، وكل ذلك ينتج ما نسمعه من خطب لا تعبر إلا عن خطبائها وقلة ثقافتهم وإنحصار فقههم، ولا تنجح الا في إثارة "الجماهير" وإلهابهم دون الهامهم، فتساهم في حرق وعيهم، وإشعال عواطفهم، وتبخير عقولهم، فضلا عن سفك دمائهم

فمعظم ما نسمعه من خطابات، لا تعدو أكثر من كونها قراءة ذاتية شخصية تستخدم نصوص الدين، وتطوعها لخدمة الموضوع، وربما لا تفعل، فتأخذ قدسيتها من قدسية المنبر الذي ينطق بها، فينتج الكثير من الخطب التي تشوه النصوص وتجتزئها وتضعها في غير مكانها، خاصة أن كثيرا ممن تصدر هذا المجال وإن أحكموا الفقه إلا انهم خسروا الحكمة، وتفتقر خطبهم الى غاية الرساله ووسائلها، سواء من حيث الموضوع أو من حيث الاسلوب، كل ذلك أنتج وينتج خطبا نارية، ما تلبث حتى تتحول الى نيران تهتك كل الحرمات وكل النصوص، وأنتج ثقافة إحتكار الصواب الذي يعطي لكل منبر صكوك غفران تأهله أن يرسل شهداءه الى الجنه، ويضع قتلاهم "أي من يخالفه الرأي" في النار. وأنتج ما أنتج من ثقافة الضد والنقض ، بدلا من الإحتواء والنقد، إلا من رحم ربي.

أما الخطاب وإن كان حظه أوفر وأكثر توفيقا باستخدام النصوص وفهمها، فهو غالبا ما بني على معرفة شمولية لنصوص الدين وفهم للواقع، يظهر من خلاله أدبياته ومفاهيمه التي تعبر عنه، ويكون له مفكريه ومنظريه، الذين يحسنون إستخدام اللغة ويملكون الثقافة والحكمة وأدوات الفهم الشرعي، إلا أن ذلك لا يمنع أي خطاب من الخطأ وعلينا ان لا نفترض به العصمه، أو نعطيه قدسية النص حتى وإن أحسن فهمه، لانه قد لايحسن قراءة الواقع الذي بنى عليه، وهذا التنوع بالفهم للواقع هو ما ينتج التنوع والبون في الخطابات الاسلامية رغم وحدة النص، ويضعها في عدة مستويات وإتجاهات ما بين المعتدل والمتطرف، وما بين اليميني السلفي واليساري التجديدي، رغم وحدة المصدر، وأحسب أن هذا ما أشار اليه علي كرم الله وجهه في واقعة صفين: "الكتاب مسطور بين دفتين، لاينطق وإنما يتكلم به الرجال"، وهذه ميزة للخطاب لا عليه، إن أحسنا فهم الاختلاف وأجادنا التعامل معه. فنتواضع قليلا لندرك انه ليس من السهل أن نكون على صواب دائما، ومن المستحيل أن يكون الاخر على خطأ دائما، ولندرك أنه ليس هناك من أحد يمكن أن يمتلك مطلق الصواب

وتبقى أزمة الخطاب أنه إلتزم متون كتب لا يتداولها إلا قليل، وحجب أو إنحجب عنه حملته، ولم يأخذ دوره في الوعي والتربية والسلوك، وكل ذلك ساهم في إنقراضه وضعفه وتشرذمه، فكيف يكون الخطاب خطابا، إذا لم يعبر عنه الناس وتحمله عقولهم، وهل يكون الفكر فكرا، اذا لم يمارس واقعا، فمحاولات النقد والنقض لـ"تلفاز الواقع" لا تجدي نفعا اذا لم يصنع الخطاب واقعا افضل، ولا أظن أن أي شكل من أشكال الخطاب سيصنع واقعا إذا انحصر ما بين "تحديث الاسلام" أو "أسلمة الحداثه"، وإنفصل عن صناعة الحياة ليبقي تابعا لا رائدا، والتزم ردة الفعل لا التأسيس للفعل، وتخلى عن دوره في مسرح الحياة وإنتاجها، ليأخذ مقعدا بين المتفرجين